السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حين نتحدث عن هذا الموضوع فلن نستطيع أن نوفيه حقه فلو تناولنا خلقاً واحداً من الأخلاق كالرحمة أو التواضع أو الكرم أو الجود أو الصبر لما وفيناه حقه ولو اجتهدنا في ذلك، ولوجدنا أن المقام يضيق عن الوفاء به، فكيف حين نريد الحديث عن عموم خلقه.
لذا سنوجز هنا بعض الشواهد على كمال خلقه ومنها:
أولاً: اختيار الله تبارك وتعالى له:
إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار ، فاختاره عز وجل وهو أعلم بخلقه ليحمل الرسالة وليكون أسوة حسنة للناس، وهذا الاختيار يقتضي أن يكون الرسول في القمة في كل الصفات البشرية، إنه بشر مثلهم ينسى كما ينسون، ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يعلم الغيب ولا ما في الغد، شأنه شأن سائر الناس، لكنه في القمة في كل صفة كمال يمكن أن تكون في بشر كيف لا وقد اختاره ربه تبارك وتعالى
وها هو عبد الله بن مسعود صاحبه رضوان الله عليه يشهد على ذلك ويقول : " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه؛ فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ".
ثانياً: ثناء الله تبارك وتعالى عليه :
لقد أثنى الله تبارك وتعالى على نبيه ووصفه بكمال الخلق، ومن أحسن من الله حديثاً قال عز وجل (وإنك لعلى خلق عظيم ) إنها شهادة لنبيه ممن خلقه وخلق الناس تبارك وتعالى وممن يعلم ما تكتمه الصدور والضمائر.
ويخبر تبارك وتعالى أنه امتن على نبيه بالرفق واللين فقال عز وجل
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)
ويمن سبحانه على المؤمنين بأن بعث لهم هذا النبي الذي يتصف بهذه الصفات العظيمة
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) .
ثالثاً: شهادة أصحابه له بحسن الخلق:
وها هم أصحابه -رضي الله عنهم- الذي صحبوه في السراء والضراء وعاشروه في كل أحواله، هاهم يشهدون له بأنه أحسن الخَلْق خلقاً
فيقول البراء رضي الله عنه:كان الرسول أحسن البشر وجهاً، وأحسنهم خلقاً
ويصفه أنس بن مالك -رضي الله عنه- بقوله: كان رسول الله أحسن الناس خلقا، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله ونقوم خلفه فيصلي بنا، وكان بساطهم من جريد النخل. متفق عليه
وسئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله فقالت:ألست تقرأ القرآن؟ كان خلقه القرآن .
رابعاً: إخباره بأنه بعث ليتم مكارم الأخلاق:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي أنه قال: "بعثت لأتمم صالح الأخلاق"
وهذا يعني أن الخلق له منزلة عظيمة في دين الله.
فلقد كان يدعو ربه أن يرزقه حسن الخلق، ويدعوه تبارك وتعالى أن يحسن خلقه
فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي كان يقول :"اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي"
وكان يقول في دعائه المشهور في قيام الليل "اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها فلا يصرف سيئها إلا أنت" وقد كان الرسول مجاب الدعوة.
وإذا كان رسول الله يسأل ربه أن يحسن خلقه فنحن أحوج ما نكون إلى ذلك، ونحن صباح مساء نقع في الأخطاء ونرى أن كثيراً من مواقفنا تشهد وتنطق بأننا أحوج ما نكون إلى التحلي بمكارم الأخلاق وأن نتعلم حسن الخلق
خامساً: دعوته إلى مكارم الأخلاق في مبدأ دعوته:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما بلغ أبا ذر مبعث النبي قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال له رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر…." متفق عليه.
فلأهمية مكارم الأخلاق ومنزلتها في دعوته جعلها أخو أبي ذر - رضي الله عنهما – عنوان دعوته، وهذا يعني أنها معلم بارز يدركه كل من عاشر النبي ورآه، وقد كانت تلك الرحلة والنبي لا يزال في أول رسالته وأول دعوته.
وعن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا".
سادساً:من مزايا خلقه :
قد تجد من البشر من يعجبك خلقه ولا تمل عن الحديث عن حسن خلقه وأدبه، وتتمنى أن يرزقك الله شيئاً مما رزقه الله من خلق، ولا شك أن الله تبارك وتعالى قد خص طائفة من الناس بشيء من ذلك
كما قال النبي لأشج عبد قيس: "إن فيك خلتين يحبهما الله الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال:" بل الله جبلك عليهما"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. رواه أبو داود وأحمد وأصله في مسلم.
لكن النبي وإن كان في القمة في كل مجال وميدان من ميادين الخلق إلا أن له من المزايا والخصائص ما لا تراه لسائر البشر، إنه إن ذكر أهل الحلم فهو أحلم الناس، وإن ذكر أهل الغيرة فهو أغير الناس، وإن ذكر أهل الشجاعة فهو أشجع الناس، وإن ذكر أهل الجود فهو أجود الناس ، فهو في كل باب من أبواب الخلق الحسن قد بلغ أحسن غاية يمكن أن يبلغها أحد من الناس لكنه مع ذلك قد اجتمع له من المزايا ما ليس لغيره، ومنها:
أولا: التكامل:
إن البشر الذين يضرب بهم المثل في حسن الخلق قد اشتهروا في باب أو ميدان واحد من الميادين، فلا يكاد يعرف عنهم غيره، أما النبي فقد جمع الله تبارك وتعالى فيه كمال الخلق في كل مجال وفي كل باب، تحدث عما شئت، وائت بالشواهد من هنا وهناك فلن ترى أصدق شاهداً مما روي عن هذا الرجل العظيم، تحدث عن الجود والكرم، وتحدث عن الحلم والرحمة والصبر عن أي خلق حسن، فسترى النبي قد بلغ الغاية فيه.
ثانياً: جمع المتقابلين:
النبي الذي لا يرد سائلاً ولا شافعاً، يقبل شفاعة الأمة والعبد والكبير والصغير، فها هو في موقف يشفع لديه حبه فيغضب
عن عائشة - رضي الله عنها - أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ؟ فكلمه أسامة فقال رسول الله :"أتشفع في حد من حدود الله؟" ثم قام فاختطب ثم قال:"إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ثالثاً: عدم الضعف:
بعض الناس حين يرزق خلقاً حسناً يتحول إلى رجل ضعيف فيسيطر عليه هذا الخلق، ولا يستطيع أن يقف مواقف صارمة وجادة فتقعد به طبائعه وسجاياه
أما النبي فيجمع الله تبارك وتعالى بين تمام الخلق وبين القوة والجرأة في الحق فهو صاحب الرحمة ومع ذلك يقول عن نفسه بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي.
رابعاً: التواضع:
حين يكون لبعض منزلة عند الناس فهو عرضة لأن يدخل في قلبه شيء من الكبر ، وقد يرى أن هذا من تمام المحافظة على هذه المنزلة التي اكتسبها عند الناس ألا يتواضع لهم، وأي رجل أحق بالتقدير والتوقير والاحترام منه ومع ذلك كيف كان شأنه وتواضعه ؟
كان كما حكى عنه عبد الله بن أوفى رضي الله عنه فيما رواه النسائي والدارمي:
يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما.
خامساً: الرحمة:
إن الله تعالى إنما أرسله رحمة للعالمين عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله ادع على المشركين قال:"إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة".
لهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وفي هذا أسوة لكل من ولاه الله أمانة ومسؤولية على المسلمين صغرت أم كبرت أياً كان أباً أو معلماً أوموجهاً أو أميراً، أن يحمل في قلبه الرحمة لمن وُليَّ عليهم، لهذا أخبر النبي أن أولئك الذين لايرحمون الناس لا يرحمهم الله تعالى
قال النبي :"من لا يرحم لا يرحم" ومن رحمته بأمته دعا فقال:"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه".
سادساً: الحياء:
ويكفي في ذلك شهادة الله بقوله عز وجل (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحي من الحق)
.ويقول أبو سعيد الخدري رضي الله فيما رواه الشيخان: كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه.
سابعاً: العفو والتنازل عن حقه:
عن عائشة - رضي الله عنها – قالت: ما ضرب رسول الله شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل.
ثامنا: كان لا يرد سائلاً :
عن جابر رضي الله عنه يقول ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا.
تاسعاً: مراعاته لمشاعر الناس:
وهو جانب دقيق وعجيب في سيرته وشواهده كثيرة، منها ما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلا في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال:"لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه".
وفي الصحيحين أنه أهدى إليه رجل صيداً وهو محرم فرده فلما رأى ما في وجهه قال:"إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم".
وحين جاء مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - وأصحابه إلى النبي فبقوا عنده أياماً، قال مالك: وكان رسول الله رحيما رفيقا فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا فسألنا عمن تركناه من أهلنا فأخبرناه فقال:"ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا عندهم وعلموهم ومروهم، إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم".
عاشراً: اهتمامه بالناس:
ومن ذلك مثلاً ما يرويه عثمان رضي الله عنه :"إنا والله صحبنا الرسول في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير وإن أناسا يعلموني به ، عسى أن لايكون أحدُهم رآه قط. رواه أحمد.
وها هو حين ماتت امرأة كانت تقم المسجد فحقَّر الناس شأنها وصلوا عليها ودفنوها بليل، قال رسول الله :"هلا آذنتموني؟" فيذهب إلى قبرها ويصلي عليها.
أسأل الله أن يرزقنا التأسي بنبيه وأن يحسن خُلقنا إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه