رحمته صلى الله عليه وسلم بالبهائم والدواب:
وتتجاوز رحمته صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى الحيوان والبهيمة؛ فيروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه فأتاه صلى الله عليه وسلم فمسح ظفراه فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم :"من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟" فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال له : "أفلا تتق الله في هذه البهيمة ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه" . رواه أبو داود.
الله أكبر لهذا القلب الرحيم العظيم صلى الله عليه وسلم ، مع ما يحمل صلى الله عليه وسلم من عبء الرسالة لا لأصحابه بل للبشرية أجمع، للثقلين الإنس والجن ومع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من هم وجهد يجد هذا الحيوان البهيم مكاناً رحباً واسعاً في قلب هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم ؛ فيأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرف عنه الرحمة؛ فيشتكي إليه، فيجيب الشكوى صلى الله عليه وسلم ، ويسأل عنه صاحبه ليخبره بشكوى هذه البهيمة.
ويروي الإمام أبو داود في سننه من حديث سهل بن الحنضلية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة وفي صحيح الإمام مسلم أن عائشة رضي الله عنها ركبت بعيرا وكانت فيه صعوبة فجعلت تردده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك بالرفق وكان صلى الله عليه وسلم في سفر كما روى ذلك أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها" .
والحديث معشر الأخوة الكرام ليس حديثا عن رحمته صلى الله عليه وسلم بالبهائم المعجمة والدواب والحيوان إنما هي إشارة إلى أن ذلك القلب العظيم الرحيم الذي وسعت رحمته هذه الدواب لابد أن يكون أرحم وأرفق بأولئك الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى، وخلق كل ما في هذه الأرض لهم (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا).
أفلا يتقي الله أولئك الذين حملهم الله أمانة المسلمين وأمانة الجيل فلئن كان من يتولى هذه البهيمية عرضة للمسألة والإنكار من محمد صلى الله عليه وسلم ، فكيف بأولئك الذين دعا عليهم صلى الله عليه وسلم ؟
رحمته صلى الله عليه وسلم تتجاوز حدود عصره:
تتجاوز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته عليه أفضل الصلاة وأتم والسلام ذلك العصر الذي عاشه صلى الله عليه وسلم ، وذاك الجيل الذي عاشره ليضع صلى الله عليه وسلم هذه الضمانة لمن بعده فيدعو ربه تبارك وتعالى "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليه فاشقق عليه" فيضع صلى الله عليه وسلم هذا نبراساً وهدياً لكل من يتحمل أمانة ومسؤولية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أجمع إلى أن تقوم الساعة، ويدعو ربه تبارك وتعالى وتقدس أن يرفق بمن يرفق بأمته، وأن يرحم من يرحم أمته، وأن يشق على من يشق عليها.
أمره صلى الله عليه وسلم بالرحمة وحثه عليها:
أمرنا صلى الله عليه وسلم بالرحمة وحثنا عليه، وأعلى لنا شأنها؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الراحمين هم أولى الناس برحمة الله ففي الترمذي وأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله".
والراحمون يستحقون مغفرة الله سبحانه وتعالى، والمغفرة أخص من الرحمة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن رجلاً كان يمشي في الطريق فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب، فلما خرج رأى كلباً يتلوى من العطش؛ فنزل البئر وسقاه، فلما سقاه غفر الله عز وجل له. وفي رواية أنها بغي من بغايا بني إسرائيل.
أرأيتم أولئك الذين رحمهم الله وغفر لهم وقد رحموا دابة من الدواب؟ فما بالكم بمن يرحم عباد الله سبحانه وتعالى الصالحين الأتقياء؟
وكما أعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الراحمين وأخبر أنهم أولى الناس برحمة الله عز وجل ومغفرته ، توعد صلى الله عليه وسلم أولئك الذين لا يرحمون؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى كما في حديث جرير بن عبد الله في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال:" لا يرحم الله من لا يرحم الناس". ومضى معنا في حديث الأقرع بن حابس أنه صلى الله عليه وسلم قال :"من لا يرحم لا يُرحم".
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن أولئك الذين لا يرحمون أشقياء قد كتبت عليهم الشقاوة؛ ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داو ود أنه قال سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تنزع الرحمة إلا من شقي".
إذا فالراحمون يرحمهم الله سبحانه وتعالى ويغفر لهم، وألئك الذين نزعت الرحمة من قلوبهم أشقياء قد عوقبوا بنزع هذه الرحمة، وهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل لا يرحم من لا يرحم عباده؛ فالجزاء من جنس العمل.