[b]بسم الله الرحمن الرحيم
اما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة فى النـار، ثم أما بعد أيضاً:
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
ما صحة هذا الحديث: "أن رجلاً من السلف قال: لا إله إلا الله عدد ما كان وعدد ما يكون وعدد الحركات والسكون" وبعد سنه قالها قالت الملائكة: أننا لم ننته من كتابة حسنات السنة الماضية فما أعظم هذه الكلمات التي لا تأخذ منك سوى ثوان.
يا فضيلة الشيخ هل هذا حديث صحيح تصل هذه عن طريق الرسائل لا أعرف هل صحيح أم لا؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه الرسالة التي انتشرت عبر الجوال والإنترنت هي من جنس كثير من الرسائل التي بدأت تتداول في الآونة الأخيرة، والتي لا يشك مَنْ له أدنى ممارسة ومطالعة في الأحاديث النبوية، وآثار الصحابة أنها ليست على سنَنِهم ولا على طريقتهم في الأدعية والأذكار التي تشع منها أنوار النبوة، وتظهر فيها الفصاحة والبلاغة العربية والبعد عن الألفاظ التي هي بأدعية المتأخرين المتكلفين أشبه منها بأدعية سيد المرسلين –صلى الله عليه وسلم- أو أدعية أصحابه الميامين.
ولّما كان البعض لا يستطيع ترويج بعض هذه الأدعية إلا بقصص، وكتب عليها بعضهم بعض القصص لتروج على العامة فلعل هذه القصة التي سألت عنها من هذا الباب.
وإنني أكرر هنا ما كررته في أجوبة سابقة من التحذير من ترويج ما لم يثبت الإنسان منه عن آحاد الناس وأفرادهم، فضلاً عن عليتهم، فضلاً عن الصحابة أو النبي –صلى الله عليه وسلم-، فإن هذا المسلك مخالف تماماً لقول الله تعالى: "فتثبوا"، وفي القراءة الأخرى: (فتبينوا).
وليس بعاقل من حدث بكل ما سمع، أو نشر كل ما وصل إليه ولو كان قصده حسناً، فإن القصد الحسن لا يشفع لصاحبه في تبرير مثل هذا الخطأ الجسيم، بل هذا العذر –أعني حسن القصد- من الشبه التي تعلق بها واضعو الأحاديث على النبي –صلى الله عليه وسلم- بغية ترويج الخير زعموا!.
فليتق الله أولئك الذين يروجون مثل هذه الرسائل، وليتثبوا منها قبل إرسالها، فإن لم يستطيعوا التثبت فليسألوا أهل العلم، والاتصال بهم اليوم أسهل منه في أي وقت مضى. إما عن طريق الإنترنت -كهذا الموقع الذي يعتني بجانب الفتوى- أو عن طريق رسائل الجوال، ولا عذر لأحد في نشر مثل هذه الرسائل الملفقة.
ومن تأمل القرآن والسنة وجد فيهما الغنية والكفاية عن ترويج مثل هذه الأحاديث الضعيفة، والأخبار الواهية، والله المستعان، والحمد لله رب العالمين.
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
*********
السؤال:
دعاء اذا دعوته تمضي سنة ولاتستطيع الملائكة الانتهاء من كتابة حسانته ؟؟؟
لا إله إالا الله عدد ماكان , وعدد مايكون , وعدد حركات والسكون... وبعد مرور سنة كامله قالها مرة أخرى فقالت الملائكة : اننا لم ننتهي من كتابة حسنات السنة الماضيه... مااسهل ترديدها وماأعظم ؟ أجرها... تخيل لو قمت بنشرها ورددها العشرات من الناس بسببك: وردد انت لا إله إلا الله عدد ماكان وعدد مايكون وعدد الحركات والسكون سبحان الله وبحمده عدد خلقه وزنه عرشه ورضا نفسه ومداد كلماته سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم .
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
هل هذا الدعاء صحيح
جزاكم الله خير
الجواب:
جواب الشيخ عبدالرحمن السحيم:
لم أرَه في شيء مِن كُتُب السُّـنَّـة
ولا أظنه يصِح ؛ لأن مِن علامات وضع الحديث – أن يكون موضوعا مكذوبا – كثرة الأجور وعِظَمها في مقابل عَمَل يسير ، وهذا ما تراه في هذا الحديث ، فإنه قد رُتِّب الأجر العظيم على عمل يسير ، بل على عمل فَاق كُلّ الأعمال ، فلم يَرِد في شيء مِن الأعمال – مهما عَظُم – أن كتابة حسناته يستغرق سنة كاملة !
-
۩۞۩ قصص الأنبياء ۩۞۩
نبدأ مع قصص الأنبياء، والذى سأذكره على فترات متكررة ولكن بعد وقت لصعوبة وجودها، وأول الأنبياء من عند الله، سيدنا نوح عليه السلام، نبدأ الآن مع قصته عليه السلام.
فضائل نوح
1 - [b]ثناء الله عز وجل عليه :
قال تعالى : ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً ) { الإسراء : 3 }
قال القاسمى : أى لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذى ينبغى، وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وحثٌُ للذرية على الإقتداء به.
وقال الزمخشرى : قيل : كان إذا أكل قال : الحمد لله الذى أطعمنى ولو شاء أجاعنى، وإذا شرب قال: الحمد لله الذى سقانى ولو شاء أظمأنى، وإذا اكستى قال: الحمد لله الذى كسانى ولو شاء أعرانى.
وقال ابن كثيـر : والظاهر أن الشكور هو الذى يعمل بجميع الطاعات القلبية والقولية والعملية فإن الشكر يكون بهذا وبهذا.
2 - أول رسول للبشر:
فقد كان بينه وبين آدم عشرة قرون كلهم على التوحيد، ولذا قال الله عز وجل ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوحٍ ) { الإسراء : 17 }.
عن أبى هريرة رضى الله عنى فى حديث الشفاعة وفيه : ((فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسمّاك الله عبداً شكوراً، أما ترى إلى ما نحن فيه)).
قال الحافظ : فأما كونه أول الرسل فقد استشكل بأن آدم كان نبياًً، وبالضرورة تعلم أن كان على شريعة من العبادة، وأن أولاده أخذوا ذلك عنه، فعلى هذا فهو رسول إليهم، فيكون هو أول رسول، فيتحمل أن تكون الأوّلية فى قول أهل الموقف لنوح مقيدةً بقولهم إلى أهل الأرض؛ لأنه فى زمن آدم لم يكن للأرض أهل، أو لأن رسالة آدم إلى بنيه كانت كالتربية للأولد، واستشكله بعضه بإدريس، ولا يرد لأنه اختلف فى كونه جد نوح كما تقدم.
3 - أحد أولى العزم من الرسل المذكورين فى آيتى الشورى والأحزاب:
قال تعالى: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) { الشورى : 13}. وقال تعالى: ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ) { الأحزاب: 7 }.
قال أبو السعود: وتخصيصهم بالذكر يعنى قوله: ( ومنك ) إلخ مع اندراجهم فى النبيين للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم، وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع، وأساطين أولى العزم، وتقديم نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام لإبانة خطره الجليل.
4 - إستجاب الله عز وجل دعاءه ونجاه من الكرب العظيم وجعل ذريته هم الباقين:
قال تعالى : ( ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون{75} ونجّيناه وأهله من الكرب العظيم {76} وجعلنا ذريته هم الباقين {77} وتركنا عليه فى الآخرين {78} سلام على نوحٍ فى العالمين{79} إنا كذلك نجزى المحسنين{80} إنه من عبادنا المؤمنين{81} ثم أغرقنا الآخرين ) { الصافات: 75-82}.
قال الألوسى: ونداؤه عليه السلام يتضمن الدعاء على كفّار قومه وسؤاله النجاة وطلب النصرة. وقوله: ( فلنعم المجيبون ) قال: تاللّه لقد دعانا نوح حين أيس من إيمان قومه بعد أن دعاهم أحقاباً ودهوراً فلم يزدهم دعاؤه إلا فراراً ونفوراً، فأجبناه أحسن الإجابة، فواللّه لنعم المجيبون نحن. وقوله:( ونجّيناه وأهله من الكرب العظيم ) أى الغرق ( وجعلنا ذريته هم الباقين ) حيث أهلكنا الكفرة بموجب دعائه ( ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ) { نوح:26}.
وقد روى أنه مات كل من فى السفينة ولم يعقبوا عقباً باقياً غير أبنائه الثلاثة: سام وحام ويافث وأزواجهم فإنهم بقوا متناسلين إلى يوم القيامة.
أخرج الترمذى وحسنه وابن سعد وأحمد وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى والحاكم وصححه عن سمرة أن النبى صلى الله عليه وسلام قال: (( سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم )).
وعلى كون الناس كلهم من ذريته عليه السلام استدل بعضهم بالآية.
وقالت فرقة: أبقى الله تعالى ذرية نوحٍ عليه السلام ومدّ فى نسله وليس الناس منحصرين فى نسله بل من الأمم من لا يرجع إليه. حكاه فى البحر.
قال: والحصر فى الآية بالنسبة إلى من فى السفينة، وهو لا يستلزم عدم بقاد ذرية من لم يكن معه وكان فى بعض الأقطار الشاسعة التى لم تصل إليها الدعوة، ولم يستوجب أهلها الغرق كأصل الصبن كما يزعمون.
قولـــه : ( وتركنا عليه فى الآخرين{78} سلام على نوحٍ فى العالمين{79} إنا كذلك نجزى المحسنين{80} إنه من عبادنا المؤمنين ).
قال الزمخشرى: معناه: الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعاً، وأن لا يخلو أحد منهم منها، كأنه قيل : ثبّت اللّه التسليم على نوح وأدامه فى الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم، علّل مجازاة نوح عليه السلام بتلك الكرامة السّنيّة من تبقية ذكره وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدّهر بأنه كان محسناً ثم علل كونه محسّناً بأنه كان عبداً مؤمنا،؛ ليريك جلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم، ويرغبك فى تحصيله والإزدياد منه.
5 - جعل الله فى ذريته النبوة والكتب: قال تعالى: ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجلعنا فى ذريتهما النبوة والكتاب ) { الحديد:26}.
قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام لم يرسل بعده رسولاً ولا نبيّاً إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، لم ينزل من السماء كتاباً ولا أرسل رسولاً ولا أوحى إلى بشر من بعد إلّا وهو م سلالته.
دعوته عليه السلام وصبره على تكذيب قومه وعنادهم
كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلها على التوحيد، كما فى صحيح الحديث عن ابن عباس قال: (( كان بين آدم ونوحٍ عشرة قرون كلهم على الإسلم )). والمراد بالقرن : الجيل كما قال تعالى: ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ) { الإسراء:17}. وقيل : المراد بالقرن مائة سنة.
ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل هذا الزمان إلى عبادة الأصنام.
عن ابــن عبـاس رضى الله عنهما فى تفسير (( وَدّ وسواع ويغوث ونسر)): أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم ان انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصاباً، وسمُّوها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخ لعلم عُبِدَت)).
قال الحافــظ: وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام، ثم تبعهم من بعدهم على ذلك.
قال تعالى فى سورة نوح: ( إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم{1} قال يا قوم إنى لكم نذير مبين{2} أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون{3} يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) { نوح : 1-4 }.
قال ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى مخبراً عن نوحٍ عليه السلام أنه أرسله إلى قومه آمراً له أن ينذرهم بأس اللّه قبل حلوله بهم، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم.
قال سيد قطب رحمه الله: فى هذه الخطوط العريضة تتلخص الديانة السماوية على الإطلاق ثم تفترق بعد ذلك فى التفصيل والتفريغ.
وعبادة الله وحده منهج كامل للحياة يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ولحقيقة الصلة بين الخلق والخالق. وتقوى الله هى الضمانة الحقيقية لاستقامة الناس على ذلك المنهج، وعدم التلفت هنا أو هناك.
وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هى الوسيلة للإستقامة على الطريق، وتلقى الهدى من مصدره المتصل بالمصدر الأول للخلق والهداية.
وقد وعدهم عليها ما وعد به التائبين الثائبين: ( يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجلٍ مسمى ) وجزاء الإستجابة للدعوة إلى عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله هى المغفرة والتخلص من الذنوب التى سلفت، وتأخير الحساب إلى الأجل المضروب له فيعلم الله وهو اليوم الآخر، وعدم الأخذ فى الحياة الدنيا بعذاب الإستئصال.
ثم بَّين لهم أن ذلك الأجل المضروب حتمىُ يجئ فى موعد، ولا يُؤخر ما يؤخر عذاب الدنيا فقال: ( إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) . وها هو نوح عليه السلام يرفع تقريراً إلى ربه الكريم عند دعوته، يقول تعالى: ( قال ربِى إنى دعوت قومى ليلاً ونهاراً{5} فلم يزدهم دعائى إلا فراراً{6} وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا اصابعهم فى آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ).
قال القاسمى: { قال } أى نوح بعد أن بذل غاية الجهد وضاقت عليه الحِيَلُ فى تلك المداد الطوال ( رب إنى دعوت قومى ) أى التوحيد والعمل الصالح( ليلاً ونهاراً ) أى دائماً بلا فتور ولا توان ( فلم يزدهم دعائى إلا فراراً ) أى من الحق الذى أرسلتنى به ( وإنى كلما دعوتهم ) إلى الإيمان أى سُّدوا مسامعهم من استماع الدعوة ( واستغشوا ثيابهم ) أى تغطّوا بها من كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم فى الدين، ( وأصروا ) على الشر والكفر ( واستكبروا استكباراً ) أى تعاظموا عن الإذعان للحق وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة.
قال تعالى حاكياً عن نوحٍ عليه السلام:
( ثم إنى دعوتهم جهاراً{8} ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً{9} فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً{10} يرسل السماء عليكم مدراراً{11} ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً ) { نوح:8-12}.
قال الزمخشرى: قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فى الإبتداء بالأهون والترقى فى الأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة فى السر، فلما لم يقبلوا ثنَّى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلَّث بالجمع بين الإسرار والإعلان، ومعنى ( ثُمَّ ) الدالة على تباعد الأحوال لأن الجهر أغلظ من الإسرار والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
قال الألوسى: ( فقلت استغفروا ربكم ) بالتوبة عن الكفر والمعاصى فإنه سبحانه لا يغفر أن يشرك به، وقال : ( ربكم ) تحريكاً لداعى الإستغفار ( إنه كان غفاراً ) دائم المغفرة كثيرها للتائبين، كأنهم تعللّوا وقالوا: إن كنا على الحق فكيف نتركه، وإن كنا على الباطلفكيف يقبلنا ويلطف بنا جل وعلا بعد ما عكفنا عليه دهراً طويلاً؟! فأمرهم بما يمحق ما سلف من المعاصى، ويجلب إليهم المنافع، ولذلك وعدهم على الإستغفار بأمور هى أحب إليهم وأوقع فى قلوبهم من الأمور الأخرويةـ أعنى: ما تضمَّه ( يرسل السماء ) إلخ وأحبَِيتهم لذلك لما جُبلوا عليه من محبة الأمور الدنيوية - والنفس مولعة بحبِّ العاجل - قال قتادة: كانوا أهل حبٍ للدنيا فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التى يحبونها، وقيل: لما كذَّبوه عليه الصلاة والسلام بعد تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهن أربعين سنة، وقيل: سبعين سنة، فوعدهم أنهم إن آمنوا يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما هم فيه وهو قوله: ( يرسل السماء عليكم مدراراً ) .
قال ابن كثيرٍ رحمه الله: وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم كما قال تعالى: ( فلبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ) { العنكبوت:14}، أى ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم؛ وكان كلَّما انقرش جيل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته، وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل منه كلامه وصّاه فيما بينه وبينه ألا يؤمن بنوحٍ أبداً ما عاش ودائماً ما بقى.
وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق ولهذا قال: ( ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً ) { نوح:27}.
و: ( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين{32} قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ) { هــود:32،33}، أى إنما يقدر على ذلك الله عز وجل فإنه الذى لا يعجزه شئ ولا يكترثه أمر، بل هو الذى يقول للشئ: كن، فيكون.
( ولا ينفعكم نصحى إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ) { هـود:34}، أى: من يرد الله فتنته فلن يملك أحدٌ هدايته، وهو الذى يهدى من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، هو العزيز الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية، وله الحكمة البالغة والحجُّة الدامغة.
الفوائد والآثار الإيمانية:
قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدى:
* يستفاد من هذه القصة أمور:
1 - منها: أن جميع الرسل من نوحٍ إلى محمدٍ صلى الله عليهم وسلم متفقون على الدعوة إلى التوحيد الخالص والنهى عن الشرك، فنوحٌ وغيره أول ما يقولون لقومهم: ( اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره ) ويكررون هذا الأصل بطرق كثيرةٍ.
2 - ومنها: آداب الدعوة وتمامها، فإن نوحاً دعا قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، بكل وقتٍ وبكل حالةٍ يظن فيها نجاح الدعوة، وأنه رغَّبهم بالثواب العاجل بالسلامة من العقاب وبالتمتع بالأموال والبنين وإدرار الأرزاق إذا آمنوا وبالثواب الآجل وحذَّرهم من ضدِّ ذلك، وصبر على هذا صبراً عظيماً كغيره من الرسل، وخاطبهم بالكلام الرقيق والشفقة وبكلَِ لفظ جاذب للقلوب محصل للمطلوب، وأقام الآيات وبيَّن البراهين.
3 - ومنها: أن من فضائل الأنبياء وأدلة رسالتهم وإخلاصهم التام لله تعالى فى عبوديتهم القاصرة، وفى عبوديتهم المتعدية لنفع الخلق كالدعوة والتعليم وتوابع ذلك، ولذلك يبدون ذلك ويعيدونه على أسماع قومهم كل منهم يقول: ( يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجرى إلا على الله ) ولهذا كان من أجل الفضائل لأتباع الرسل أن يكونوا مقتدين بالرسل فى هذه الفضيلة، والله تعالى يجعل لهمن من فضله من رفعة الدنيا والآخرة أعظم مما يتناقس فيه طلاب الدنيا.
4 - قال القرطبى رحمه الله: فى هذه الآية ( فقلت استغفروا ربكم ) { نــوح:10}. والتى فى هود: ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ) { هـود:52} دليل على أن الإستغفار يستنزل به الرزق والأمطار.
قال الشعبى: خرج عمر يستسقى فلم يزد على الإستغفار حتى رجع فأُمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلب المطر بمجاديح السماء التى يستنزل بها المطر، ثم قرأ: ( استغفروا ربكم ) .
وقال ابن صبيــح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة؛ فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له فى ذلك، فقال: ما قلــت من عندى شيئاً إن الله تعالى يقول فى سورة نوح ( استغفروا ربكم ... ) الآية.
5 - قال الحافظ فى (( فتح البارى )): حكى الواقدى قال: كان (( ودٌّ )) على صورة رجل، و (( سواع )) على صورة امرأة، و (( يغوث )) على صورة أسد، و (( يعوق )) على صورة فرس، و (( نسر ) على صورة طائر، وهذا شاد والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر وهو مقتضى ما تقدم من الآثار فى سببب عبادتهم.
6 - قال ابن القيـم رحمه الله: أول ما كاد به الشيطان عُبَّاد الأصنام من جهة العكوف على القبور وتصاوير أهلها ليتذكروهم بها، كما قصَّ الله سبحانه قصصهم فى كتابه، فقال: ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ) الآية.
ثم قال: وتلاعب الشيطان بالمشركين فى عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قومٍ على قدر عقولهم، فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم فى قوم نوحٍ عليه السلام، ولهذا لع النبى صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد والُّرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وسأل ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل، فأبى المشركون إلى خلافة فى ذلك كله.
[size=16]دعاء نوحٍ عليه السلام على قومه واستجابة الله عز وجل له وهلاك الكافرين
قال تعالى: ( وأًُوحى إلى نوحٍ أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون{36} واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون{37} ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأٌ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون{38} فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذابٌ مقيم{39} حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كلٍ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل{40} وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربى لغفورٌ رحيم {41} وهى تجرى بهم فى موجٍ كالجبال ونادى نوحُ ابنه وكان فى معزلٍ يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين{42} قال سآوى إلى جبلٍ يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين{43} وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعى وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعداً للقوم الظالمين{44} ونادى نوحُ ربه فقال ربِّ ان ابنى من أهلى وإن وعدك الحلق وأنت أحكم الحاكمين{45} قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالحٍ فلا تسألنِ ما ليس لك بهِ علمُ إنى أعظك أن تكون من الجاهلين{46} قال ربَِ إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين{47} قيل يا نوح اهبط بسلامٍ منا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممن معك وأممٌ سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) { هــود: 36-48 }.
قال ابن كثيرٍ رحمه الله: وهذه تعزية لنوحٍ عليه السلام أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، أى لا يسوءنَّ ما جرى فإن النصر قريب، والنبأ عجب عجيب.
( واصنع الفلك بأعيينا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون ).
وذلك أن نوحاً عليه السلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم، ورأى أنهم لا خير فيهم، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق من فعال ومقال، دعا عليهم دعوةً غضب الله عليهم، فلبى دعوته وأجاب طلبه: ( ولقد نادانا نوحٌ فلنعم المجيبون{75} ونجّيناه وأهله من الكرب العظيم ) { الصافات: 75-76}.
( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً{26} إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً ) { نــوح: 26-27}، فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم.
( ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأٌ من قومه سخروا منه قال ان تسخروا منه فإنا نسخر منكم كما تسخرون{38} فسوف تعلمون من يأتيه عذابٍ يخزيه ويحل عليه عذابٌ مقيم ).
قال صاحب المنار: وطفق يصنع الفلك كما أمر ( وكلما مر عليه ملأٌ من قومه سخروا منه ) استهزؤوا به وضحكوا منه وتنادوا عليه لحساباتهم أنه مصاب بالهوس والجنون، وروى أنهم كانوا يسألونه عما يصنع فيجيبهم أنه يصنع بيتاً يمشى على الماء، ولم يكن هذا معروفاً ولا متصوراً، وقلَّ أن يسبق أحد أهل عصره بما هو فوق عقولهم ومداركهم من قول أو عمل، إلا سخروا منه قبل أن يتم له النجاح فيه.
( قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) أى نسخر منكم اليوم لجهلكم وغداً لما يحل عليكم، فإن كنتم لا تعلمون اليوم بما نعمل وبما سيكون من عاقبة أمرنا ( فسوف تعلمون ) بعد تمامه ( من يأتيه عذاب يخزيه ) أى: يذله ويجلب له العار والتبار فى الدنيا ( ويحل عليه عذابٌ مقيم ) بعد ذلك فى الآخرة فيكون عذاب الدنيا هيناً بالإضافة إليه لانقضاء هذا وزواله بهلاككم وبقاء ذلك ودوامه بدوامكم.
قـوله تعالى: ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كلٍ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ).
قال القرطبى: اختلف فى التنور على أقوالٍ سبعة:
الأول: وجه الأرض.
الثانى: أنه تنور الخبز الذى يخبز فيه.
الثالث: أنه موضع اجتماع الماء فى السفينة.
الرابع: أنه طلوع الفجر.
الخامس: أنه مسجد الكوفة.
السادس: أنه أعالى الأرض والمواضع المرتفعة منها.
السابع: أنه العين التى بالجزيرة.
قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن الله عز وجل أخبرنا أن الماء جاء من السماء والأرض قال: ( ففتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمرٍ{11} وفجرنا الأرض عيوناً ) { القمر:11-12}.
فهذه الأقوال تجتمع فى أن ذلك كان علامة، والفوران: الغليان.
( قلنا احمل فيها من كلٍ زوجين اثنين ) يعنى ذكراً وأنثى لبقاء أصل النسل.
( و أهلك إلا من سبق عليه القول ) : قال الشيخ محمد رشيد رضا: أى واحمل فيها أهل بيتك ذكوراً وإناثاً، وأهل بيت الرجل عند الإطلاق: نساؤه وأولاده وأزواجهم، والظاهر أن المستثنى منهم كفارهم إن كان فيهم كفار لأنهم يدخلون فى عموم قوله: ( ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون ) .
قال ابن كثيـر: وقدم الله تعالى إليه إذا جاء أمره وحل بهم بأسه الذى لا يرد عن القوم المجرمين أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه، فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنه ليس الخبز كالمعاينة.
قوله تعالى: ( ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ) :
قال فى (( المنار )): ولم يبين الله تعالى ولا رسوله عددهم فكل ما قاله المفسرون فيهم مردود لا دليل عليه كما قال ابن جرير الطبرى، كما أنه لم يبين لنا أنواع الحيوانات التى حملها، ولا كيف حملها وأدخلها السفينة، وهى مفصَّلة فى سفر التكوين، وللمفسرين فيها إسرائيليات مضحكة تخالفها لا ينبغى تضييع العمر فى نقلها وإشغال القراء بها.
( وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربى لغفور رحيم ):
قال الزمخشــرى: بمعنى اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، ويروى أنه كان إذا أراد أن تجرى، قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله، فرست، ويجوز أن يقحم الإسم كقوله: (( ثم اسم السلام عليكما ))، ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها أى بقدرته وأمره.
( إن ربى لغفور رحيم ): أى لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم.
( وهى تجرى بهم فى موجٍ كالجبال ونادى نوح ابنه وكان فى معزلٍ يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ):
قال القاسمى رحمه الله: وذلك أنه لما تفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت ينابيع الأرض، تعاظمت المياه وعلت أكناف الأرض، وارتفعت فوق الجبال الشامخة، وكان ما يرتفع مع الماء عند اضطرابه من أمواجه كالجبال.
( ونادى نوحٌ ابنه وكان فى معزلٍ ): أى متنحى عن أبيه ( يا بنى اركب معنا ): أى ادخل فى ديننا واصحبنا فى السفينة ( ولا تكن مع الكافرين ) أى فى الدين والإنعزال - الهالكين.
( قال سآوى إلى جبلٍ يعصمنى من الماء ) أى فلا أغرق.
( قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) أى لا مانع اليوم من بلائه وهو الطوفان إلا الراحم وهو الله تعالى، أو لا عاصم إلا مكان من رحم وهم المؤمنون يعنى السفينة، أو لا عاصم بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله.
( وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) أى الهالكين بالغرق، وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة، فكان ذلك أمراً مقرر الوقوع، غير مفتقر إلى البيان.
( وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعى وغيش الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى وقيل بعداً للقوم الظالمين ): قال ابن كثيــر رحمه الله:يخبر تعالى أنه لما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة أمر الأرض أن تبلع ماءها الذى نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر ( وغيض الماء ) أى شرع فى النقص ( وقضى الأمر ) أى قرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبق منهم دياراً ( واستوت ) السفينة بمن فيها ( على الجودى ) قال مجاهد: وهو جبل بالجزيرة.
وقال الزمخشرى: وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه كأنهم عقلاء مميزون قد عرفوا جلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الإمتثال له والنزول على مشيئته على الفور من غير ريثٍ.
( ونادى نوحٌ ربه فقال رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين{45} قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالحٍ فلا تسألن ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين ):
قال القاسمى رحمه الله: إعلام بأن نوحاً حملته شفقة الأبوة وتعطف الرحم والقرابة على طلب نجاته لشدة تعلقه به واهتمامه بأمره، وقد راعى مع ذلك أدب الحضرة وحسن السؤال، فقال : ( وإن وعدك الحق ) ولم يقل: لا تخلف وعدك بإنجاء أهلى، وإنما قال ذلك لفهمه من الأهل ذوى القرابة الصورية والرحم النسبية، وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله: ( إلا من سبق عليه القول ) ، ولم يتحقق أن ابنه هو الذى سبق عليه القول؛ فاستعطف ربه بالإسترحام وعرض بقوله: ( وأنت أحكم الحاكمين ) إلى أن العالِمَ العادل والحكيم لا يخلف وعده.
( قال يا نوح إنه ليس من أهلك ) أى الموعود إنجاؤهم بل المستثنين لكفرهم أو ليس منهم أصلاً؛ لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر.
( إنه عملُ غير صالحٍ ) بين انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح تنبيهاً على أن أهله هم الصلحاء أهل دينهِ وشريعته، وإنه لتماديه فى الفساد والغى كأن نفسه عمل غير صالح، وتلويحاً بأن سبب النجاة ليس إلا بالصلاح لا قرابته منك بحسب الصورة، فمن لا صلاح له لا نجاة له وهذا سرُّ إيثار ( غير صالح ) على (( عمل فاسد )).
وقد قرأ يعقوب والكسائى: (( عَمِلَ )) بلفظ الماضى والباقون بلفظ المصدر بجعله نفس العمل مبالغة كما بيَّنا.
( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) أى لا تلتمس منى ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب.
( إنى أعظك أن تكون من الجاهلين ) أى أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياى ما لم تعلم وقد تنبَّه عليه السلام عند ذلك التأدُّب الإلهى والعتاب الربانى وتعوذ بقوله: ( قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين ).
( قيل يا نوح اهبط بسلامٍ منا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممن معك وأممٌ سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ):
قال الزمخشــرى: المعنى أن السلام مِنَّا والبركات عليك وعلى أممٍ مؤمنين ينشئون ممن معك، وممن معك أممٌ ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار، وكان نوحٌ عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه فى السفينة.
الفوائد والآثار الإيمانية:
1 - قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله: إن الوشيجة التى يتجمع عليها الناس فى هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهدافٍ يختص بها ذلك المنهج الربانى الكريم.
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب، وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة، إن هذه الوشائج جميعاً قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد، كما قال سبحانه وتعالى لعبد نوح عليه السلام، وهو يقول: ( رب إن ابنى من أهلى ): ( يا نوح إنه ليس من أهلك ) ثم بين له لماذا يكون ابنه ليس من أهله .. ( إنه عمل غير صالحٍ ) إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يانوح: ( فلا تسألنِ ما ليس لك به علمٌ ) فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ، أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك ولو كان هو ابنك من صلبك.
2 - وقال رحمه الله: ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوحٍ لنرى قيمة الحفنة المؤمنة فى ميزان الله سبحانه.
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوحٍ عليه السلام تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر هم كانوا حصيلة دعوة نوح فى ألف سنة إلا خمسين عاماً، كما يقرر المصدر الوحيد المتسقين الصحيح فى هذا الشأن.
إن هذه الحفنة - وهى ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل - قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون، وأن يجرى لها ذلك الطوفان الذى يغمر كل شئٍ، وكل حى فى المعمور وقتها من الأرض، وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هى وارثة الأرض بعد ذلك، وبذرة العمران فيها، والإستخلاف من جديد.
3 - قال القاسمى: قال بعضهم: (( فى تقرير عموم الطوفان مبرهناً عليه )): إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة فى طبقات الأرض الظارهة، فيشاهد فى أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف، حتى فى قمم الجبال، ويرى فى السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية بعضها ظاهر على سطحها وبعضها مدفون على مقربةٍ منه، واكتشف فى الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع، بعيدة الإئتلاف، معها بقايا آلات صناعية وآثار بشريةٍ، مما يثبت أن طوفاناً قادها إلى ذلك المكان، وجمعها قسراً فأبادها فتغلغلت بين طبقات الطِّن، فتحجرت وظلت شهادة على ما كان بأمر الخالق تعالى. انتهـى.
4 - قال العلامة السعدى: ينبغى الإستعانة بالله وأن يذكر اسمه عند الركوب والنزول وفى جميع التقلبات والحركات، وحمد الله والإكثار من ذكره عند النعم لاسيما النجاة من الكربات والمشقات، كما قال تعالى: ( قال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها ) وقال: ( فإذا استويت أنت ومن معكعلى الفلك فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين ) وأنه أيضاً ينبغى الدعاء بالبركة فى نزول المنازل العارضة كالمنازل فى إقامات السفر وغيره، والمنازل المستقرة كالمساكن والدُّور لقوله: ( وقل رب أنزلنى منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين ) وفى ذلك كله من استصحاب ذكر الله، ومن القوة على الحركات والسكنات، ومن قوة الثقة بالله ومن نزول بركة الله التى خير ما صحبت العبد فى أحواله كلها ما لا غنى للعبد عنه طرفة عين.
5 - ومما يستفاد من قصة نـوح: أن النجاة من العقوبات العامة الدنيوية هى للمؤمنين وهم الرسل وأتباعهم، وأما العقوبات الدنيوية العامة فإنها تختص بالمجرمين ويتبعهم توابعهم من ذرية وحيوان وإن لم يكن لها ذنوب، لأن الوقائع التى أوقع الله بأصناف المكذبين شملت الأطفال والبهائم، وأما ما يذكر فى بعض الإسرائيليات أن قوم نوح أو غيرهم لما أراد الله إهلاكهم أعقم الأرحام حتى لا يتبعهم فى العقوبة أطفالهم، فهذا ليس له أصل وهو منافٍ للأمر المعلوم، وذلك مصداق لقوله تعالى: ( واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصةً ) { الأنفال:25}.
6 - قال العلامة محمد رشيد رضا: إن الله تعالى يجزى الناس فى الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم لا بأنسابهم، ولا يحابىً أحداً منهم لأجل آبائه وأجداده الصالحين وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين، وإن من سأله من هؤلاء الآباء ما يخالف سنتة فى شرعه وحكمته فى نظام خلقه؛ كان مذنباً يستحق التأديب حتى يتوب وينيب.
7 - قال القرطبى فى هذه الآية: فقال: ( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالحٍ ) تسلية للخلق فى فساد أبنائهم وإن كانوا صالحين وفيها أيضاً دليل على أن الإبن من الأهل لغة وشرعاً ومن أهل البيت فمن وصى لأهله دخل فى ذلك ابن ومن تضمنه منزله وهو فى عياله وقال تعالى فى آية أخرى: ( ولقد نادانا نوحٌ فلنعم المجيبون{75} ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ) فسمى جميع من ضمنه منزله من أهله.
-